أزمات المسلمين في هذا العصر كثيرة ومتعددة، لكنَّ الأزمة التي يمر بها المسجد الأقصى اليوم هي من أشدِّ الأزمات وقْعًا على القلوب، وأكثرها ألمًا في النفوس؛ لأنها ليست مجرد أزمة تصيب الأمة في دمائها ولا في نفوسها، وإنما هي أزمة تصيب الأمة في عقيدتها وفي إيمانها ودينها، فالأقصى عندنا جزءٌ من عقيدتنا ومن إيماننا وديننا، ويكفيه شرفًا وطهرًا وتقديسًا ومكانةً ومهابةً أن الله عز وجل قد اصطفاه من بين الأرض كلها ليشهد لحظات انتقال الريادة والقيادة من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل، إلى نبي جديد هو نبينا محمد، وإلى أمة جديدة هي الأمة الإسلامية، وقد حدث ذلك حين جمع الله لنبينا محمد كلَّ الأنبياء قبلَه ليكون لهم إمامًا ورائدًا. واقتحامه اليوم من قِبَل العصابات الصهيونية بتأييد وحماية جيش الكيان الصهيوني وشرطته؛ يشير إلى فداحة الخطب وجلل المصاب، خاصةً أن من وراء هذا الاقتحام أمة يهودية بكاملها تتحرك وتدفع وتشجع، بل وتسهر على هدمه أو تهويده، وما اقتحامه اليوم إلا خطوة من الخطوات شبه النهائية التي تحاول تقريب مشروع التهويد وبناء الهيكل اليهودي المزعوم على أرض الواقع، وذلك بعدما تجرَّأت على حرقه قبل ذلك، وقامت بالحفريات تحته، وشقَّت الأنفاق في ساحاته وتحت جدرانه، وزرعت المدينة المقدسة بـ"المستوطنات" الكثيرة والهائلة، ونفَّذت فيه المجازر، وأحاطت مدينته بجدار الفصل العنصري، بل ومنعت الناس من الوصول إلى ترابه والجلوس على أعتابه، بل ومن الصلاة في محرابه. وأمام مثل هذه الأزمات يتدخل الفقه الإسلامي بكل مدارسه ومذاهبه، وبكامل شيوخه وعلمائه، ويُجمع على أن المسئولية عن إنقاذ الأقصى الأسير وتحريره والدفاع عنه في رقبة الأمة الإسلامية بكاملها أو في رقبة كل مسلم؛ حيث تُجمع المذاهب الإسلامية على أنه يتعيَّن على المسلمين جميعًا أن يخفُّوا إليه وأن يطيروا نحوه لردِّ هذا العدوان عنه، والعمل على أن يظلَّ أبد الدهر مسجدًا إسلاميًّا وأرضًا إسلاميةً ورمزًا إسلاميًّا. وعلى ذلك فإن كل فرد من المسلمين يكون محلاًّ للمسئولية الإسلامية إذا تكاسل في أداء الواجب، وذلك هو قوله سبحانه: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (التوبة: 41)، وقد قيل في تأويل قوله تعالى: ﴿خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ أربعة أوجه؛ أحدها: شبانًا وشيوخًا، قاله الحسن وعكرمة، والثاني: أغنياء وفقراء، قاله أبو صالح، والثالث: ركبانًا ومشاةً، قاله أبو عمر، والرابع: ذا عيال وغير ذي عيال، قاله الفَراء. ولا أجد أوضح من عبارة الإمام النووي في كتابه (المجموع- جـ19 ص 269)؛ حيث يقول في حكم هذه الحالة: "والجهاد فرض عين على كل مسلم إذا انتُهكت حرمة المسلمين في أي بلد فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكان على الحاكم أن يدعو للجهاد، وأن يستنفر المسلمين جميعًا، وكانت الطاعة له واجبةً، بل فريضة كالفرائض الخمس؛ لقوله تعالى ﴿خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ ولقول معمر: كان مكحول يستقبل القبلة، ثم يحلف عشر أيمان إن الغزو واجب، ثم يقول إن شئتم زدتكم". ويثبت الماوردي في كتابه الرائع (الأحكام السلطانية) أن إجماع الفقهاء على هذا الحكم واقعٌ وثابتٌ إذا ثبت وقوع العدوان، وبالتالي لا تسقط المسئولية عن أحد حتى يرتفع العدوان ويأخذ الجاني نصيبه من الجزاء والردع، بل إن المسئولية هنا تكون تمامًا كالمسئولية عن فروض الأعيان، مثل الصوم، والصلاة، وتلحق تلك المسئولية أولاً أهل الناحية التي دهمها العدو، فإن عجزوا عن دفعهم امتدَّت المسئولية الدولية إلى أهل الناحية التي تليها، فإن عجزوا أيضًا امتدَّت المسئولية إلى أهل البلد التي تليها، وهكذا حتى تشمل المسئولية جميع المسلمين شرقًا وغربًا، على اختلاف ألوانهم، وتباين غاياتهم وتباعد أماكنهم. وإذا كان دين الأمة ومذهب الأئمة هو بذل النفس في سبيل إنقاذ المقدسات وتحرير الأرض التي دهمها العدو؛ فإن الأموال التي يحتاج إليها في هذا السبيل يجب أن تُبذَل من باب أولى؛ ذلك لأن أموال الدنيا لو قوبلت بقطرة دم لم تعدلها ولم توازِها، وفي ذلك يقول إمام الحرمين الجويني في كتاب (غياث الأمم): "فإذا وجب تعريض المهج للهلاك والردى، ومصادمة العدى؛ وجب من باب أولى بذل المال، ومن أبدى فيه تمردًا فقد ظلم واعتدى، فإذا كانت الدماء تسيل على حدود الظبات "السيوف" فالأموال في هذا المقام من المستحقرات". وإذا كان المرابطون في فلسطين يحملون لواء الجهاد هناك، إلا أنهم في حاجة ماسَّة إلى دعم ومساندة، فلماذا تتخاذل الأنظمة العربية والإسلامية عن دعمهم بالمال والسلاح؟ ولماذا تتخاذل المنظمات الدولية العربية والإسلامية، الحكومية وغير الحكومية عن أخذ دورها وأداء ما يجب عليها في ضوء أهدافها وأحكام ميثاقها؟ ولماذا يتخاذل العلماء والفقهاء عن توجيه الأمة وبذل الأسوة والقدوة؟ ولماذا يتخاذل الأفراد عن تلبية نداء الأقصى، بفعل ما يمكن أن يكون في استطاعتهم؟! -------------- بقلم: د. محمود السيد حسن داود * أستاذ السياسة الشرعية بجامعة البحرين. |
0 التعليقات:
إرسال تعليق